خير نساء الأرض في الإسلام

خير نساء الأرض

في التاريخ الإنساني الممتد منذ فجر الخليقة، لمع نجم نساء صالحات خلدت سيرتهن في صفحات الوحي الإلهي وسجلات التاريخ، فكنّ نماذج خالدة في الإيمان، والتقوى، والصدق، والثبات، والتضحية. وإذا كان الله تعالى قد رفع من شأن المرأة في الإسلام، وأعطاها من الكرامة والاحترام ما لم تعرفه الحضارات السابقة، فإنّ تجليات هذا التكريم تتضح بجلاء في ذكر خير النساء في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وتقديمهن كقدوات لكل امرأة تسعى للكمال الإنساني والرضا الإلهي.

مكانة المرأة في الإسلام

جاء الإسلام ليعيد للمرأة كرامتها التي سلبتها الجاهلية. فقد كانت تُعامل ككائن تابع لا يُعتد برأيه، بل قد تصل الحال إلى وأدها وهي طفلة. أما في الإسلام، فقد قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70]، فشمل هذا التكريم الذكر والأنثى. وأكد النبي صلى الله عليه وسلم على فضل النساء، خاصة من اتقين الله وأخلصن له في العبادة والطاعة، وبيّن أن من النساء من بلغن درجة الكمال الإيماني، وخلّدت سيرتهن كمصابيح للهدى.

حديث النبي عن خير نساء الأرض

روى البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:

“كمُل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام”.

وقد ورد في روايات أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر كذلك فاطمة الزهراء رضي الله عنها. وبهذا يُستدل على أن خير نساء الأرض أربعٌ هن:

• مريم بنت عمران

• آسية بنت مزاحم (امرأة فرعون)

• خديجة بنت خويلد

• فاطمة الزهراء بنت محمد

وكل واحدة من هؤلاء النسوة الأربع تمثل جانبًا عظيمًا من جوانب الكمال البشري، وتتفرد بخصائص روحية وإنسانية جعلتها في مصافّ أعلى النساء، بل أعلاهن قدرًا في ميزان السماء.

أولًا: مريم بنت عمران

مريم العذراء هي أعظم نساء بني إسرائيل، بل هي المرأة الوحيدة التي ذُكر اسمها صراحة في القرآن الكريم، وخصص لها سورة كاملة باسمها (سورة مريم). وقد قال تعالى عنها:

﴿وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلَـٰٓئِكَةُ يَـٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصْطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلْعَـٰلَمِينَ﴾ [آل عمران: 42].

تميزت مريم بالطهارة والعفاف والعبادة والخضوع لله تعالى. عاشت في كنف زكريا عليه السلام، وتلقت العناية الإلهية منذ ولادتها. كانت مثالا للعفة إذ حملت بعيسى عليه السلام من غير زوج، وكان ذلك من أعظم المعجزات. ورغم ما تعرضت له من ابتلاء في قومها الذين اتهموها بالفاحشة، إلا أنها صبرت واحتسبت، وكان الله معها يؤيدها ويوجهها.

مريم تمثل المرأة العابدة المتفرغة لطاعة الله، التي بلغت بالكمال الروحي والتسليم مقامًا رفيعًا، حتى قال النبي عنها إنها من النساء اللاتي كملن في الدنيا.

ثانيًا: آسية امرأة فرعون

كانت زوجة أكبر طاغية في التاريخ، فرعون الذي ادعى الألوهية، ورغم ذلك، لم يُثنها جبروته عن الإيمان بالله، بل آمنت سرا، ثم جهرًا، حتى نالت الشهادة في سبيل عقيدتها. وقد قال الله عنها:

﴿وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًۭا لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ٱبْنِ لِى عِندَكَ بَيْتًۭا فِى ٱلْجَنَّةِ﴾ [التحريم: 11].

قدمت آسية أروع صور التضحية والثبات، ورفضت أن تتخلى عن إيمانها رغم التعذيب، فماتت شهيدة. كانت ترى في الإيمان بالله غاية وهدفا، وطلبت أن يكون لها بيتٌ عند الله، لا عند فرعون، مما يوضح عمق يقينها وزهدها في الدنيا.

تمثل آسية قدوة لكل من تعيش في بيئة مليئة بالفساد، ومع ذلك تحافظ على إيمانها، وتثبت على الحق.

ثالثًا: خديجة بنت خويلد

هي أول من آمن بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم من النساء والرجال، ووقفت بجانبه في أشد المراحل وأصعبها، خصوصًا في بدايات الدعوة الإسلامية. كانت امرأة حكيمة، رزينة، كريمة، ذات مكانة عالية في قومها، وعرفت بالتجارة والثراء والخلق الرفيع.

قال عنها النبي: “آمنت بي حين كفر الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وواستني بمالها حين حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد، ولم أرَ من نسائها مثلها”.

مكانتها في قلب النبي كانت عظيمة، حتى إن السيدة عائشة كانت تغار منها رغم وفاتها، لأنها كانت كثيرًا ما تُذكر على لسان النبي صلى الله عليه وسلم.

خديجة تمثل المرأة الناصرة للدعوة، الداعمة للحق، المؤمنة الثابتة، وهي نموذج للمرأة الزوجة التي تُعين زوجها على تحقيق رسالته، وتقدم كل ما تملك لأجل إعلاء كلمة الله.

رابعًا: فاطمة الزهراء

فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، سيدة نساء أهل الجنة، نشأت في بيت النبوة، وشربت من معين الوحي، وتميزت بالزهد والعبادة، والتقوى، والتواضع، والقرب من الله تعالى.

كانت أكثر من تشبه النبي في أخلاقه وسيرته، وكان يقول عنها:

“فاطمة بضعة مني، من أغضبها فقد أغضبني”.

تزوجت من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وواجهت معه شظف العيش، وصبرت على مشقة الحياة، ورزقها الله بالحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. كانت فاطمة نبعًا للرحمة، وعنوانًا للزهد والتقوى، ومثالًا في رضا الله ورسوله.

تمثل فاطمة المرأة الصالحة الطاهرة الزاهدة، التي تنبع عفتها من صدق إيمانها.

جدول مقارنة بين خير نساء الأرض

السمات المشتركة بين خير النساء

على اختلاف البيئات والحقب الزمنية التي عاشت فيها هؤلاء النساء الأربع، إلا أن هناك قواسم مشتركة تجمعهن، أبرزها:

1. الإيمان العميق: جميعهن بلغن درجة عالية من اليقين بالله والثقة بحكمته وعدله.

2. الصبر على الابتلاء: واجهن ظروفًا قاسية، من فقر، وتعذيب، وتشويه سمعة، ومع ذلك صبرن.

3. الدعم للدعوة الإلهية: سواء بشكل مباشر كما في حالة خديجة، أو بالموقف الصلب كما في آسية.

4. الزهد في الدنيا: لم تكن الماديات هدفهن، بل طلبن مرضاة الله.

5. الخلق الرفيع: من التواضع، والحياء، والطهر، والكرم، والإيثار.

أثر سيرتهن على المرأة المسلمة

وجود نماذج مثل خير نساء الأرض في الموروث الإسلامي يمنح المرأة المعاصرة بوصلة تهتدي بها وسط التحديات. فكل من هذه النساء تمثل مسارًا من مسارات النجاح الروحي والديني:

• مريم تُحفّز على الطهارة والعبادة.

• آسية تلهم الثبات والصبر على المبدأ.

• خديجة تبرز دور المرأة في نصرة الحق ومساندة الزوج.

• فاطمة تجسد الزهد، والحياء، والتربية الأسرية الصالحة.

خاتمة

خير نساء الأرض هن تاج الطهر على جبين الإنسانية، ارتقين إلى الكمال الإيماني، وحققن من خلال الصبر والثبات، والعبادة، والبذل، والتضحية، أعلى المراتب التي يمكن أن تبلغها المرأة. سيرتهن ليست مجرد قصص في الماضي، بل مشاعل نور تسير على هديها المؤمنات في كل زمان ومكان، وهنّ بحق عنوان الكمال والجمال في أرقى صوره.

المراجع:

1. ابن حجر العسقلاني، “فتح الباري شرح صحيح البخاري”.

2. الطبري، “جامع البيان في تأويل القرآن”.